جريمة قتل على الرصيف

جريمة قتل على الرصيف

جريمة قتل على الرصيف

روحي تؤلمني الليلة, لم أدرِ قبلاً أنها تتألم هكذا .. إنه شعور جديد آخر ينضم لمجموعة أحاسيس لم أتخيل وجودها في أكثر نوبات خيالي شطوحاً, حتى أن مقدرتي اللغوية العميقة ولساني الذي كان يثرثر بعنجهية لا مثيل لها, عاجزان تماماً عن إيجاد أسماء مناسبة لها, لكنها بجميع الأحوال تنحدر من جوف مظلم قرب قلبي كل ليلة, قبل أن تنبعث مع دمائي الراكدة في عروقي ببطء, وتلوث العالم مع أنفاسي النتنة ببرودة صدئة الملمس.
ضميري لم يعد يؤنبني, تخليت عنه في مكان ما على الطريق, حقائب آلامي لم تكن تتسع لكافة مكنوناتي الروحية, اضطررت لإلقاء بعض الرفاهية التي كانت ملكي على أرصفة تشردي في رحلة بحثي عن فردوسي المفقود, احتفظت من فرط غبائي بطيف ذكريات متعدد الألوان, وهو بالتحديد ما يشرع أبواب قلبي الصغير للأسى كل حين الآن.
الليلة, كان علي أن أقتل أحدهم كي أعيش, الجريمة أصبحت جزءاً من نسيجي الجديد, لم يكن ذلك صعباً, لم أعرف من هو حتى, ولا أبالي, كمنت في الظلام قرب زاوية تخفيها شجرة كبيرة, توقف المطر عن تبليلي قبل فترة قصيرة, استندت بقدمي على حقيبتي, عددت قطرات المياه التي لاحظتها عيناي وهي تنزلق على بنطالي العتيق نحو ثقب صغير قرب ركبتي, لم أشعر بها تلامس جلدي المتصلب, لقد فقدت إحساسي بأمور رقيقة كتلك, النوم على أرصفة المدينة جعلني أمتلك جسداً قوياً لطالما حلمت به في مراهقتي كي أجذب الفتيات الجميلات, صحيح أنه جسد مرهق معلول, لكنه اشتد مع مرور الأيام, ولم يعد يشعر بالآلام كما كان, لم يعد يشعر بشيء كأن شيئاً لا يحدث على الإطلاق.
سمعت صوت خطوات تقترب, حبست أنفاسي كي لا ينبهه صفير الهواء في أنفي القذر إلى وجودي, تنفست من فمي بلهاث خافت, خطوة, خطوتان, ثلاث خطوات … ربما تنتظره عائلة لطيفة في مكان ما من أحد تلك البيوت هناك, لا .. انبلاج ساطع صارخ في دماغي, لن أفكر في هذا الاتجاه, لن يطعم ذلك معدتي الجائعة منذ أيام, أرجو فقط ألا يكون مشرداً غريباً مثلي, لكن صوت حذائه على الطريق الإسفلتي الضيق يوحي بعكس ذلك, إنه لا يستحق الحياة, ولا يستحق الروح التي يحتضنها دون وعي في جنبات جسده المكتنز, يجب إزهاق تلك الأنفاس الدافئة الآن, وينبغي إطفاء بريق تلك الأعين المخاتلة دون تأخير, لم يبقى ونموت؟ لم تبقى البشرية ونموت؟ كلنا شركاء في مصير واحد, أجل.
خمس خطوات, ست خطوات, لقد عددتها بنفسي من قبل, سبع خطوات, الآن … قفزت عليه بغتة في الظلام, شلته المفاجأة عن المقاومة, ومنعه كفّاي الملتفان حول عنقه من الصراخ والعويل, ضغطت بأصابعي دفعة واحدة, شعرت به يتحرك محاولاً الإفلات, لكن إرادتي لقتله كانت أكبر من تشبثه بالحياة, لم ألمح وجهه حتى, ولا أدري إن جحظت عيناه من فرط الألم, لكني أعرف تماماً أن عينيّ جحظتا من محجريهما باحمرار مجنون, وابتسامة ُ درامية ترتسم على شفتي عمداً, سكن جسده وهمدت أوصاله بعد لحظات, تابعت الضغط على عنقه لمزيد من الوقت بتلذذ الحب الجسدي الأول, انتهيت أخيراً, جررته من رقبته نحو الظلال المتراكمة, مددت يدي إلى جيبه الخلفي, انتشلت محفظة نقوده وتركته يتكوم قرب قدمي دون مبالاة, لم ألمح وجهه قط, أمسكت مقبض حقيبتي وابتعدت دون أي إحساس.
ستكفيني تلك النقود لتناول قليل من الطعام في الأيام القادمة, لا بأس بها في ظل هذه الظروف, لن يعود شيء كما كان, لذا سأقتات بأي شيء من هنا أو هناك, لم أعد أشتهي شيئاً منذ زمن بعيد, معدتي فقدت إحساسها بكل شيء أيضاً, وصار لكل شيء ذات المذاق أمام جبروت الجوع, لا فائدة من اشتهاء أي شي بجميع الأحوال, فلن آكل شيئاُ قبل صباح الغد على أقل تقدير, ذلك أفضل لصحتي ولاستقرار نومي أيضاً, رسمت ابتسامة واسعة على فمي وأنا أفكر: كيف أن عاداتي القديمة لا تفارقني حينما أكون في مزاج جيد.
غمرني ضوء شارع طويل فانزاحت أفكاري بعيداً, تابعت سيري فيه إلى نهايته البعيدة صامتاً, مئات الشوارع في الكون تغص بي, أنا في كل مكان, حقائبي ترتقب يداً تنتشلها في زاوية مظلمة هنا أو هناك, وأشلائي القديمة تتوزع على أرصفة لا نهائية منتظرة ً من يقلّها في سيارته نحو الماضي, توقفت في نقطة ما على الطريق الأخير لأنظر خلفي, لم أجد شيئاً يخصني هناك, لم أعد أملك أي شيء يمكنني التخلي عنه, ولم يعد الفراغ حالة مزعجة بعد اليوم, إنه واقعي الجديد في عالمي الجديد بعد انهيار عالمي الأصلي دون سابق إنذار, ربما لهذا تتوجع روحي, لا أدري بالضبط, ربما سأعرف السبب الحقيقي عندما أتخلى عنها أيضاً, ولا أعتقد أن ميعاد ذلك ببعيد, سيقتلني أحدهم على رصيف ما, حينها لن أكون أنا القاتل, ولن تجحظ عيناي أكثر.

Like This!

About وليد بركسية

الكتابة هي قدري ... Writing is my destiny
هذا المنشور نشر في فقاعات من نفخ الخيال وكلماته الدلالية , , , , , , , , , . حفظ الرابط الثابت.

6 Responses to جريمة قتل على الرصيف

  1. Mohammad Adnan Dawood كتب:

    it suggest an acute melancholic sate

    إعجاب

  2. . نقطة كتب:

    الكتابة قدرك.

    إعجاب

  3. أحمد العقدة كتب:

    اعتبرها الأجمل من بين كل ماكتبت .. مبدع كعادتك وليد وشهادتي بك مجروحة
    “سمت ابتسامة واسعة على فمي وأنا أفكر: كيف أن عاداتي القديمة لا تفارقني حينما أكون في مزاج جيد”.
    “حينها لن أكون أنا القاتل, ولن تجحظ عيناي أكثر”.

    إعجاب

رأيك يهمني ...