مرحباً أيها الحزن لفرانسوا ساغان … رؤية مرهفة لحياة المراهقين من الداخل

مرحباً أيها الحزن
مرحباً أيها الحزن

أصدرت فرانسوا ساغان عام 1954 و قبل أن تتجاوز التاسعة عشرة من عمرها , روايتها الأشهر ” مرحبا ً أيها الحزن ” لتدخل عالم الأدب و الشهرة من أوسع الأبواب , و تصبح مع مرور الأيام و تتالي الأعمال الأدبية واحدة من أشهر الكاتبات في القرن العشرين و رمزا ً بارزا ً للأدب الفرنسي عامة على حد تعبير الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك في حفل تأبينها إثر وفاتها عن عمر يناهز تسعة و ستين عاما ً سنة 2004.
لا يمكن النظر إلى ” مرحبا ً أيها الحزن ” على أنها رواية تقليدية على الإطلاق , نظرا ً لظروف كتابتها و موضوعها في آن معاً , فهي من جهة تدور حول عالم المراهقين المتقلب و المضطرب , و رؤية لهذا العالم البراق من الداخل دون إقحام فلسفة التعقيد الناضج للكتاب الأكبر سنا ً على تفكير الشخصيات في أعمال تحاكي الفضاء نفسه , و من جهة أخرى تتجاوز الرواية أحداثها لتكشف مع آخر عبارة فيها الستار عن تقييم خفي بين السطور للحياة العابثة في المجتمع الفرنسي البرجوازي إن صح التعبير .
تدور أحداث الرواية في مكان ما من الريفيرا الفرنسية الجميلة , حول سيسيل ذات السبعة عشر عاما ً و حياة العبث التي تعيشها مع والدها ريموند و عشيقته الجميلة إيلزا , قبل أن تقع في حب لطيف بريء مع سيريل الشاب المتزن و المستقيم , لكن الأمور تتعقد فجأة بمجيء آن صديقة والدتها المتوفاة لقضاء إجازتها بينهم , واضعة حدا ً للاستهتار الذي يتسيد حياة الجميع في المصيف , بتأثير القوة الداخلية التي تتمتع بها و الحزم الذي تحقق به ما تؤمن به من مبادئ و مثل عليا .
تنجح آن في إيقاع ريموند في حبها و تقنعه بالزواج منها دون صعوبة تذكر , بينما تختفي إيلزا عن الأنظار قليلا ً دون أن تبالي كثيرا ً بما يجري من حولها , لكن سيسيل تشعر – و هي الخارجة حديثا ً من مدرسة داخلية في أحد الأديرة – أن الحياة الجميلة الهانئة توشك على الانتهاء بتأثير القيود الشديدة التي تفرضها طريقة آن في الحياة , فتبدأ في لاوعيها بالتمرد على ذلك الواقع المستقبلي , و ترسم خطة للحيلولة دون ذلك , تقوم أساسا ً على إيهام والدها بعلاقة حب بين إيلزا و سيريل ما يؤدي لاشتعال غيرته و ابتعاده عن آن , و فعلا ً هذا ما يحصل , لكن سيسيل لم تفكر بعواقب ما قامت به و خططت له , حيث تصطدم فجأة بانتحار آن من شدة الحزن بإلقاء سيارتها فوق جرف صخري قرب المصيف , لتعود الحياة العابثة إلى سيسيل و والدها مع مسحة عميقة من الحزن و الندم على الفرصة الذهبية التي أضاعاها للنجاة من الظلام الذي يغرقان فيه يوماً إثر يوم .
تنقسم الرواية إلى قسمين رئيسيين نجد في كل منهما طرحا ً مختلفا ً لشخصية سيسيل , ففي القسم الأول تبدو سيسيل أقرب إلى الطفولة , مع سذاجة واضحة في التعامل مع الحياة و الأفكار المختلفة , بينما تبدو في القسم الثاني أكثر نضوجا ً و خبرة , و نراها قادرة على تحليل الآخرين للتنبؤ بردود أفعالهم بغية الاستفادة منها في الخطة التي ترسمها للتخلص من آن , و بالتوازي مع طريفة الطرح الثنائية , تتعدد طرق معاملة سيسيل من قبل المحيطين بها ما يسهم بقوة في خلق حالة من التشتت و الضياع داخلها , فوالدها يعاملها كفتاة ناضجة من عمره , بينما تعاملها آن كطفلة لا تفقه شيئا ً , و تنظر لها إيلزا كمعلمة و مخلصة , فيما يتقلب سيريل في معاملتها بين إنسانة و حبيبة و طفلة و معلمة .
في السياق ذاته يبدو ما سبق نتيجة ً حتمية ً لعقل سيسيل المراهق و انعكاسه على ما حوله , فهي في حد ذاتها متقلبة في رؤيتها لنفسها , تريد و ترغب أشياء في الليل و عندما يأتي النهار تكون في حالة أخرى مغايرة تماما ً , فتستخف بنفسها و تزداد حيرتها و اضطرابها لترمي بنفسها في الحب الجسدي بحثا ً عن شيء من الراحة , و عندما تمنعها آن من لقاء سيريل تبدأ بالتفكير و الانغماس في عالمها الداخلي ما يشكل حافزا ً لنضوجها و رغبتها في الخلاص من سيطرة آن المحكمة .
من جانب آخر , بنت ساغان روايتها بأسلوب السرد النفسي البسيط مع تركيز شديد على الجوانب النفسية المختلفة , خاصة أن قسما ً كبيرا ً من الرواية يدور داخل عقل سيسيل و ذكرياتها و خواطرها , لتنساب الكلمات سطرا ً إثر سطر بسلاسة دون توقف أو تعقيد أو حاجة ماسة للتفكير , ما أضفى على الرواية – كباقي أعمال ساغان الأدبية – تلك البساطة المحببة و ساهم في انتشارها و خلودها حتى اليوم رغم عدم انتمائها لمدرسة أدبية محددة أو تيار ما على وجه الخصوص , ففيها شيء من الكلاسيكية في السرد , و شيء من الحداثة في التداعي النفسي و الذكريات , و قليل من الرمزية في تعاطيها مع عناصر الطبيعة المختلفة كالبحر و الشمس اللذين يولدان كثيرا ً من الأفكار المتضاربة داخل عقل سيسيل المراهق .
استكمالا ً لما سبق , لم تتخطى الحداثة التي تحملها صفحات الرواية الحدود المنطقية , و لم تصبح تنظيرا ً فكريا ً و فلسفيا ً أو حتى جماليا ً دون غاية ترجى , بل على العكس من ذلك أصبحت الرواية بكافة خصائصها المعرفية و الجمالية رمزا ً للأدب الذي يتناول حياة المراهقين المتقلبة , و متفوقة في جوانبها النفسي – برأيي الخاص – على رواية أغوستينو الشهيرة لأديب إيطاليا الأول ألبرتو مورافيا .
في النهاية , تجدر الإشارة أن ساغان استقت عنوان روايتها على الأقل من مطلع قصيدة شهيرة للشاعر الفرنسي الكبير بول إيلوار , قبل أن يتم اقتباسها إلى الشاشة الكبيرة عام 1958 في فيلم شهير يحمل نفس الاسم , قبل أن تخلد السينما صاحبتها بطريقتها الخاصة عام 2008 في فيلم السيرة الذاتية الشهير Sagan .

Like This!

About وليد بركسية

الكتابة هي قدري ... Writing is my destiny
هذا المنشور نشر في فقاعات أدبية وكلماته الدلالية , , , , , , , , , , , , . حفظ الرابط الثابت.

رأيك يهمني ...