النزوات

النزوات

النزوات

أحب البدايات، تلك التي تولّد داخلي في لحظة غير منتظرة عدداً لا محدوداً من النزوات المفاجئة، تعتريني النزوات بكثرة هذه الأيام، هي إذاً بداية لشيء لم يتكون بعد، أشعر بنفسي في الصباح الذي يشبه لونه شفقاً في زحل، جنيناً يتكور على ذاته في رحم غير معروف، أكره العودة للماضي، لذا أجبر نفسي على التمدد والانزلاق نحو النور قبل الأوان، الشمس لم تشرق بعد.
النزوات تبدأ ولا تنتهي، كل نزوة منها تفتح بصعوبة باباً خشبياً رطباً نحو ظلال الخطايا القديمة التي تعانق قبورنا التي لم تتشكل بعد في مقابر مستقبلية لا أقوى على تخيلها، أو نحو الحرمان بصورته المجردة، أبث النزوات في داخلي كي أبقى على قيد الحياة، أنا أيضاً نتيجة نزوة سريعة عابرة في زاوية المطبخ، النزوات أفضل من الأفكار الكبرى وأجمل من جنان الآلهة التي لا يبلغها الإنسان إلا بتجنب النزوات، النزوات لا تبقي ولا تذر سوى الملابس على أجساد أصحابها، النزوات عديمة اللون دون بريق مبهرج كما تتخيله عقول مراهقي البوب.
غالباً ما تتملكني النزوات الشريرة، نزوات لقتل الحمقى المزعجين أو نزوات لتلوين حدقات عيني بالأحمر القاني في ليالي القمر المكتمل أو نزوات لنتف ريش العصافير المزقزقة دون ذنب تقترفه سوى تنفيذ نزواتها الفطرية. نزواتي الشريرة التي لم تكتمل بعد تشدني نحو عالم آخر أنتفي فيه لمستوى النزوات الكبرى كخطيئة وهي كلمة أخرى خالية من المعنى.
النزوات المفاجئة تتكاثر كفطر أو بكتيريا طيبة في أحشائي لتحولني من حليب طفولي إلى لبن حامض بلسمي القوام يتدفق من أعضائي السفلية بحرارة، نزوتي الكبرى التي تؤرقني هي نزوة حادة بالحصول على تدليك للقدمين وأنا أغمض عيني لا أكثر، لا خيالات جنسية أو مآزر محلولة في نزوات مباغتة على طاولة التدليك وأرض الغرفة التي لا تجتاحها نزوة مفاجئة للتدثر بسجادة، مجرد تدليك بسيط للقدمين بقصد الراحة فوق أريكتي المخلخلة نفسها، دون صوت ودون يدين إن أمكن، العداوة القديمة بين الأيدي والأقدام توترني كما يتوتر قط كسول عندما يلوث الحليب الرطب شاربيه المتأرجحين.
لا أرغب أن أكون نزوة عابرة في عقل أحدهم حتى لو كان عقل نيكول كيدمان نفسها، الشمس وحدها هي من تخلق النزوات في داخلي كي أكون جزءاً منها، الاستلقاء العبثي تحت شمس الظهيرة الحارقة هي النزوة القصوى التي لا تعادلها نزوة أخرى في جموحها، الحصول على جلد أحمر مقرمش تحت الشعر القردي الذي يكسو الظهر الذكوري كبساط في صحراء، الحرق لأجل الحرق فقط، الاستعداد للجحيم الموعود، الذهاب إلى الجحيم للاستهزاء به وجهاً لوجه أو لأخذ حمام ساونا فائق الحرارة في العالم الآخر، الموت لم يحن بعد، البرزخ لم يتشكل، ملاك الموت الدموي ينضم إلي في غرفة البخار لمحادثة ودية قصيرة.
ما الذي يجمعنا معاً كل يوم سوى النزوات؟ نزوة اللذة العابرة أو النشوى القصوى الأسطورية، أو نزوة التجمع حول طاولة تقتل الإحساس بالفراغ، نزوة الحياة التي تنازع نزوة التوق للموت، لا أريدك الليلة ولا غداً، الملل ليس نزوة بحد ذاته لكنه المصدر الأساسي لكل النزوات، يمكنني بسهولة تصور الإله الأخرق الذي خلق العالم في لحظة اشتدت عليه النزوات لقتل الملل، أضحك عليه في سري وعلني بشكل مجرد خال من النزوات، الاستسلام للنزوات هو الفشل الأكبر، الخلق بحد ذاته كنزوة سريعة ليس مثالياً كما يبدو إن كان نتيجته نسخ كربونية معدومة القوى مثلنا.
الفراديس هي الكلمة الجديدة التي تلح علي لاستخدامها كنزوة شريرة، لا أدري كيف أرتب نزواتي الكتابية الأخرى كي تكون الفراديس في النهاية نزوة ذات معنى مفهوم على الأقل، الفهم نفسه نزوة غبية لا مبرر لها، يمكنني القول أن الملائكة أحادية الاتجاه تدور في رقصات مولوية بأجنحتها المثنى والثلاث والرباع في الفراديس الأسطورية دون نزوة ودون رغبة ورغماً عنها، لكن ذلك ليس مسلياً، نزواتي الجديدة تقول لي أن أستخدم الفراديس في جملة لا معنى لها، نزواتي الجديدة غير قادرة على الخلق، أنا إله صغير فاشل.
نزواتي الجديدة تشابه نزوات سرطان بحري بتسلق شجرة باسقة بحثاً عن الحب قرب القمر، لا وجود لكلمة “أنزو” في القواميس السميكة، النزوة ليست فعلاً لكنني أمارسها كفعل، أخلق النزوات في داخلي بحثاً عن المتعة ولو في صف جمل على ورقة، السقف لا يدور، الولادة لا تتم، الموت لا يأتي، الفراديس لا تمطر الضفادع، ريش العصافير الأصفر الذي نتفته ينبت في المروج الخضراء في توسكانيا وبافاريا، العشب الأخضر المستبدل بنزواتي يشرق كقوس قزح أحادي اللون يربط منزلي الكبريتي بأرض العجائب حيث تنتظرني أليس مع ملكة القلوب كي تبحث لي عن صديقة جديدة يائسة تنتابها النزوات بشأن رجل أرضي معدوم الخيال لا يؤمن بالأرانب الناطقة.
أنا إنسان صامت معظم الوقت، ربما لهذا أكره العصافير، أقحم ذاتي في نصوصي الأخيرة ولو في جمل مبعثرة كجزء من التغيير الذي تفرضه طقوس النزوات التي تنتابني، أندمج في الطقوس دون بوهيمية مطلقة أو ملابس داكنة أو موسيقا مخيفة، لا تعتيرني الرهبة من القادم، نزواتي الأخيرة نقية السريرة وطيبة المعشر ولطيفة كسلام أسطوري أبيض يغمر العالم، أعرف مسبقاً أن النزوات المماثلة كأن أبتسم وأغفو من جديد محافظاً على الابتسامة حتى موعد استيقاظي لا يمكن أن تتحقق ببساطة، لكن من يبالي، كلها مجرد نزوات فقط، وستزول.

About وليد بركسية

الكتابة هي قدري ... Writing is my destiny
هذا المنشور نشر في فقاعات من نفخ الخيال وكلماته الدلالية , , , , , , , , . حفظ الرابط الثابت.

رأيك يهمني ...