إله آخر يذوي

إله آخر يذوي

إله آخر يذوي

في دلمون القديمة صرخة تهتز لها العوالم، الآلهة القديمة تتخلى عن عروشها المذهبة وتتحول إلى حاشية في بلاط ملك جديد، السجود والطاعة لنيل العطايا الكثيرة، الخير يغمر العالم بإشارة واحدة، الأفراح والليالي الملاح والفوانيس وكعك السكر البني، الإله يتجلى في سمائه وحيداً مغتراً بنفسه كآخر من بقي في هذا العالم، النجوم السبعة لم تنطفئ بعد.
الأرصفة خالية هذا المساء، تفرق الشحاذون صباحاً مع قليل من الذهب بين أصابعهم، في الليل الأتي مومس مترهلة تتحدى نمط الحياة الجديد لكنها لا تمكث طويلاً، في مخدع النعيم الأبدي مكان دائماً لفتاة شبقة تهب الحياة من بين ساقيها ولو تقادمت عليها السنون، حبيبات القمح القديمة تتناثر ملوثة بالدم، الرياح تتسارع دون أن تبصر ما حولها، اللبن يمتزج بالتراب وحيداً ويفقد قدرته المزعومة على الخلق.
هو إله آخر يذوي، تقولين لي ذلك وأنت لم تأت بعد، أسمع صوتك ولا أملك القدرة على استحضارك بكلمة واحدة، لست إلهاً بعد، الإله وحده يقول كن فيكون، ألم تري ماذا فعل ربك بعاد؟ كانت كلمة واحدة فقط، وكلمة واحدة منه فقط تحضرك إلى هنا، لكنني لم أطلب منه ذلك، على الإله إن يكون شاملاً في ألوهيته، عليه أن يعرف ماذا أريد دون أن أنطق به، هو يتخطى قدراتنا البشرية وإلا ما الفائدة منه؟
لو كنت إلهاً لشعرت بالملل حتماً، ربما قمت بنشر الجذام والبثور والضفادع من حين لآخر لكسر روتيني السماوي، على الرجل أن يمتع نفسه وإلا أصيب بالاكتئاب، لن أتخذ لي صاحبة أو خليلة ولن أنجب الأطفال، أفضل التمرد على تلك القواعد الأسرية السخيفة كشاب طائش جذاب في قصتي التي أكتبها، لا أتحمل صراخ الأطفال ولن أمتلك المال الكافي لشراء الهدايا لهم، الإله عاطل عن العمل كما تعرفين فهو يتفرغ لهندسة أمور الكون المعقدة، لا يمكنني أن أكون إلهاً مهندساً وبابا نويل لأطفال كثيرين في وقت واحد، لا تنسي أنني شبق معظم الوقت ولهذا لا بد أن يكون لي أطفال كثر وليس طفلاً واحداً فقط، ربط القناة الدافقة خيار غير وارد، الإله لا يكشف رجولته أمام الأطباء.
ترسلينني إلى الصحراء، الكثبان الرملية تتطاير، الجمال السمينة لم تخلق بعد، البيت العتيق مازال أنقاضاً تنتظر يداً ابراهيمية لرفعها، القوافل المحملة بالخير والمعلومات والثرثرة لا تأتي إلى هنا مثلما لا يأتي البريد إلى منزل الشقيقات العوانس في البناء المجاور، أرتشف الرمال في فنجان زجاجي أنيق موشى بورود زرقاء على الطريقة الانجليزية، يحتاج مزيداً من السكر، أبتلعه دون تلذذ ودون تقزز، ترتدين أمامي خماراً شفافاً لا فائدة منه وترقصين عارية على تلة رملية تمتص جسدك ببطء وتقطره غيمة كهرمانية نحو فنجاني، أرتشفك بشراهة وأزدرد حبيباتك بغضب دون رحمة، تتعلقين بشاربي الكث بحثاً عن النجاة، ألعقك بلساني مرة واحدة فتهتز الأرض تحتنا برفق ثم تعودين للرقص الهادئ أمامي في الغرفة الحارة.
لو كنت إلهاً كما تقولين لي لغيرت رائحة الهواء الكبريتية قبل أن أذوي، لكنن أتهدل بين يديك دون أبلغ النشوة الموعودة، الإله يداهمه الوقت دائماً في اللحظات الرومانسية، الخيال أقوى من ترهات الزمن، أدفع لك المزيد لكن ارتباطاتك العضوية الأخرى لا يمكن تأجيلها، أتمدد على الملاءة البيضاء الرقيقة التي تستر الأرض المغبرة، وأغفو دون أن أفكر بشيء محدد، علي أن أستأجر خادمة للتنظيف في المرة القادمة.
أنتقل إلى دلمون من جديد، أبحث بين الآلهة القديمة عن أحد أحادثه على الأرصفة، المومس القديمة تزدريني والإله المتقاعد آن رب الزمان ينظر إلي باحتقار، أشعر أني مكروه منهما لكنني لا أبالي، هما مثلي مجرد ظلال شاحبة منزوعة القوى، أحاول إقناعهما كي ينضما لي في مشروع تمرد ثلاثي يعيد الكون لوضعه الأول، لكنهما يشكواني للبلاط الغاشم مع تسجيل صوتي كدليل دامغ على زندقتي، كم هما أبلهان! لا عبث أنهما إلهان بائدان، كيف تكون إلهاً بحق السماء وترضخ لقوانين الآلهة الآخرين، لن يدعوني أحمل ذنوب العالم على صليب أو صخرة بكل تأكيد فلست من ذلك النوع اللطيف من الآلهة، على الأغلب سيمسخونني بعد محكمة ميدانية إلى شكل بشري لفترة محددة كي أتعلم فنون الطاعة ثم سيعيدونني مكبلاً بالسلاسل كملكة دون تاج، ذلك مسل كرحلة سياحية لغربيين ضجرين في بلاد الشرق المبتذلة، وهو مثير كنقطة كافيين زائدة في مجرى الدم الراكد أو كمشكلة تشترى ببطاقة الائتمان من شركة عبقرية في سويسرا.
أنا مجرد إله آخر يذوي، الشمس لن تشرق من المغرب اليوم، لا نهاية لدوران الأرض ولا نهاية للعالم، أنا وحدي أنتهي بقرار ذاتي من عقلي الرخو كإسفنجة رطبة، لم أقع في الحب بكلاسيكية بلهاء كي أتخلى عن الخلود الرباني ولم تتملكني شهوة مصاحبة الشيطان في حفلة داعرة في ديسكو الطابق الأرضي السابع، لم أعد أؤمن بنفسي كإله فقط، هذه كل القصة، من المسلي أن أكون ملحداً بحق ذاتي من الآن فصاعداً، سأبيع صوري القديمة في دلمون للمارة في الشوارع أو سأنشرها في معرض فني حداثي، سأتحول لإله بشري من نوع جديد مثلما تنسلخ الربة الحية من جلدها كل عام، الملابس البراقة والأضواء والغبار اللامع، على أغلفة المجلات سأكون أقوى من الإله الوحيد المتبقي في عليائه ولو لفترة محددة، الزمن أقوى من الألهة، الشهرة أقوى من الزمن.

About وليد بركسية

الكتابة هي قدري ... Writing is my destiny
هذا المنشور نشر في فقاعات من نفخ الخيال وكلماته الدلالية , , , , , , , , , . حفظ الرابط الثابت.

رأيك يهمني ...