سوريا: دعاوى قضائية ضد المفطرين في رمضان

رمضان في العاصمة دمشق (غيتي)

لا جديد في الدعاوى القضائية التي رفعت ضد المفطرين في سوريا خلال شهر رمضان الجاري، حيث تعتبر البلاد دولة دينية متنكرة في مظهر علماني زائف لا أكثر، كأسلوب رسمي اتبعه النظام منذ عقود لمخاطبة الجمهور المحلي أولاً، والدول الغربية ثانياً، عبر تصدير نفسه كحامٍ للأقليات في شرق المتوسط أو كحارس للبوابة عبر حماية الغرب من التطرف الإسلامي.

وتحولت مجموعة “مفطرين رمضان” في “فايسبوك” فجأة من مجموعة ثانوية لم يسمع بها أحد ربما، إلى حدث الساعة في البلاد خلال اليومين الأخيرين، مع هجمة شرسة من طرف سوريين مسلمين قبل أن تلتقط القصة وسائل الإعلام المعارضة التي هاجمت المجموعة من باب الهجوم على النظام السوري لأنه “ينشر الانحلال الديني” في مناطق سيطرته في تعميم تكرر كثيراً في السنوات العشر الماضية، مع حقيقة أن الثورة السورية المدنية لم تدم طويلاً وتحولت بسرعة إلى نموذج إسلاموي قادته فصائل إسلامية متشددة سيطرت على المشهد السياسي والإعلامي.

والمجموعة تعرف عن نفسها بعبارة: “نمارس حقنا الطبيعي في الاكل والشرب كأي كآئن بشري آخر قرر ألا يموت من الجوع” ويوجد فيها نحو 7 ألاف شخص فقط، ولا تنشر فقط من سوريا بل يلاحظ فيها منشورات من مختلف دول المنطقة التي يرتفع فيها مستوى القمع الديني.

وبحسب وسائل إعلام موالية، تقدم المحامي غالب محملجي بإبلاغ للنيابة العامة في حلب، ضد المجموعة والمشرفين عليها والمتفاعلين فيها حتى بالإعجاب فقط، موجهاً لهم جميعاً تهمة “الإساءة إلى الأديان والمقدسات والشعائر الدينية وإثارة الفتن والنعرات الطائفية ونشر الرذيلة والشذوذ ونشر المخدرات والمسكرات”، وبالطبع افتتح بيانه بآيات قرآنية قبل أن يتحدث عن علمانية الدولة السورية والدستور السوري، في تناقض مذهل مع ما يتحدث عنه عن التعددية الفكرية وحق الأشخاص في العبادة التي يكفلها الدستور.

تلك النقطة مثيرة للاهتمام، لأن الدستور السوري، كالكثير من الدساتير في الشرق الأوسط، يضم مادة تكفل حرية ممارسة الشعائر الدينية، لكن تفسير تلك المادة لا يشمل سوى الأديان الابراهيمية. ويصبح الإلحاد مثلاً أو اللادينية جريمة لكونهما ليسا من العبادات التقليدية. ويبدو الدستور بالتالي مدخلاً لفرض أسلوب حياة محدد من جهة ولتهديد الأفراد من جهة ثانية، خصوصاً عندما يكون الأفراد المستهدفون من الصحافيين أو الكتاب أو السياسيين المعارضين، الذين تلصق بهم جزافاً تهم الإلحاد واللادينية جزافاً لمجرد خروجهم عن السياق العام، فيما تقدم السلطات السياسية، ومعارضوها على حد سواء، أنفسهم على أنهم حامون للأديان في المجتمعات المحلية.

وفيما يدعي النظام السوري أن دستور البلاد مدني وعلماني وحضاري، بعكس دول المنطقة، فإن ذلك يتناقض بسهولة مع عشرات المواد فيه، حيث يحدد الدستور السوري الفقه الإسلامي مرجعاً رئيسياً للتشريع، ويحدد دين الرئيس بالإسلام، بالإضافة إلى وجود الطائفية الدينية ضمن قانون الأحوال الشخصية المخجل إلى جانب عدم الاعتراف بالزواج المدني، فضلاً عن أن “محاكم البداية المدنية” مقسمة بحسب الطوائف: المحكمة الشرعية للسنّة، والمحكمة المذهبية للدروز، والمحكمة الروحية التي تنظر في قضايا الأحوال الشخصية لغير المسلمين، لا سيما الطوائف المسيحية والطائفة الموسوية وغيرها.

وليس من الغريب بالتالي أن تتكرر دعوات اعتقال المفطرين في رمضان لـ”مساسهم بالسلم الأهلي” في كل رمضان حتى من قبل وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية. ففي العام 2020 مثلاً دعت قناة “سما” شبه الرسمية لاعتقال المفطرين ضمن إجراءات أخرى منها إقفال دور السينما وحجب الصور الفاضحة ووضع ستائر على أبواب المطاعم وتنظيم دوريات للشرطة من أجل ضبط المفطرين في الشوارع واحتجازهم إلى ما بعد عيد الفطر وغيرها. كما قدمت شبكة “دمشق الآن” العام 2017 “رؤية قانونية” دعت فيها إلى ضرورة تغيير القوانين السورية لأن “العديد من الدول العربية والإسلامية تطبق العقوبات على الإفطار علناً في شهر رمضان، وذلك مراعاة لشعور الغالبية من المواطنين واحتراماً لطقس عبادة يمارسه المسلمون في أيام الشهر الفضيل حيث أن حرية الشخص تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين”!

هذا المشهد ليس مقتصراً على سوريا بل يتكرر في دول المنطقة عموماً. في العراق هذا العام مثلاً بدأت الشرطة في كربلاء باعتقال المفطرين وفقاً لتوجهات وزير الداخلية عبدالأمير الشمري. وفي مصر العام 2016 قالت دار الإفتاء المصرية أن المجاهرة بالفطر في نهار رمضان “لا تدخل ضمن الحرية الشخصية للإنسان، بل هي نوع من الفوضى والاعتداء على قدسية الإسلام، لأن المجاهرة بالفطر في نهار رمضان مجاهرة بالمعصية، وهي حرام، فضلا عن أنها خروج على الذوق العام في بلاد المسلمين، وانتهاك صريح لحرمة المجتمع وحقه في احترام مقدساته”.

وفي المجموعة السورية في “فايسبوك” وصلت الهجمة على الأفراد حد التكفير، كما تكررت عشرات التعليقات المروعة التي دعت المفطرين إلى “الاستتار” أي الإفطار سراً وعدم الحديث عن “فجورهم” علانية. وهي نفس النوعية من التعليقات التي تلاحق مجتمع الميم مثلاً وغيرهم من الفئات التي لا تندرج ضمن “السياق العام” المرسوم من قبل السلطة السياسية لتحديد من هو المواطن المثالي.

ولا تفهم تلك النوعية من التعليقات أن هنالك حاجة لدى الأفراد للتعبير عن أنفسهم على كافة المستويات. ويصبح ذلك التعبير صدامياً أحياناً لأن هنالك فجوة بين أسلوبين في الحياة، يرى أحدهما في وجود الآخر جريمة يجب اجتثاثها من جذورها. ولأن العنف مشرع ضد غير المؤمنين من جهة ولأن مظاهر الإيمان تملأ الفضاء العام من جهة ثانية، فإن الحاجة للتعبير عن عدم الالتزام بالسياق العام تصبح أكثر إلحاحاً، خصوصاً أن العائلات عادة تجبر أفرادها على الالتزام الديني منذ سن صغيرة ما يخلق ضغوطاً ساهمت مواقع التواصل في التخفيف منها عبر إيجاد علاقات مع افراد متماثلين في التفكير.

هذا كله لا يعجب السلطة الحاكمة باسم الدين ولا الأفراد ذوي العقلية المحافظة، وهو أمر طبيعي في دول تفتقر للعلمانية التي تقوم على ركيزتي فصل الدين عن الدولة وإقرار حرية الإعتقاد الديني. والركيزتان لا يمكن أن تتحققا إلا في مجتمع ديموقراطي حر مختلف عن المجتمع السوري الذي أشرف على خلقه النظام السوري طوال عقود من الاستبداد والدكتاتورية.

About وليد بركسية

الكتابة هي قدري ... Writing is my destiny
هذا المنشور نشر في فقاعات صحافية وكلماته الدلالية , , , , , , , , , , , , , , , . حفظ الرابط الثابت.

رأيك يهمني ...