مزيج الكلاسيكية الظاهرية و الفلسفة العميقة في فيلم الرعب الشهير The others

مزيج الكلاسيكية الظاهرية و الفلسفة العميقة في فيلم الرعب الشهير The others

مزيج الكلاسيكية الظاهرية و الفلسفة العميقة في فيلم الرعب الشهير The others

يعتبر كثير من الأشخاص فيلم الرعب الشهير The others واحدا ً من أفضل الأفلام عبر التاريخ و أكثرها إثارة للجدل , بما يحمله من تجديد و أفكار عميقة تتجاوز به حدود سينما الرعب إلى فضاء فلسفي أعمق بكثير .
يبدو الفيلم لأول وهلة واحدا ً من أفلام الرعب الكلاسيكية كما يشتهيها أصحاب القلوب الرومانسية , بيت كبير يحيط به ضباب كثيف , شيء غامض حدث قبل أيام لكننا لا ندري ما هو , أبواب تفتح و تغلق من تلقاء نفسها , بيانو قديم تنبعث منه الموسيقا دون أن يلمسه أحد , عالم كامل من المحرمات التي تخرق بصمت , و أصوات أشخاص غير مرئيين يجوبون المكان دون أن يردعهم أحد .
و في تفاصيل الفيلم , يعيش المشاهد قصة Grace مع ولديها الصغيرين Ann و Nicolas بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية , لكن حياتهم في بيتهم الكبير غير عادية على الإطلاق على خلفية إصابة الطفلين بحساسية شديدة تجاه الضوء , ما يدفع بهم لإغلاق جميع النوافذ بستائر سميكة للحيلولة دون وقوع حادث مؤسف , و فجأة يصل إليهم ثلاثة من الخدم الغامضين , لتبدأ معهم الشكوك حول وجود أشباح تجوب المكان .
و مع تقدم الأحداث و تتالي الحوادث الغريبة , تطرد Grace الخدم الثلاثة ظنا ً منها أنهم السبب في كل ما يجري لدوافع غامضة تتعلق بالمنزل نفسه , و تكتشف لاحقا ً أنها كانت محقة في ظنونها عندما تجد صورة فوتوغرافية لثلاثتهم و هم موتى بمرض السل قبل 50 عاما ً , بينما يجد طفلاها المتسللان إلى الحديقة في جنح الظلام قبور الخدم وراء المنزل , لكن الحقيقة كان أكبر من ذلك , إذ نكتشف في نهاية المطاف أننا عشنا طوال الفيلم مع الأشباح أنفسهم , بينما الأشباح الذين كنا نحس بوجودهم مع Grace ليسوا سوى الأحياء الذين يقطنون المنزل إثر انتحارها و قتلها ولديها قبل أيام .
هذا النهاية الصادمة , و الطريقة الجديدة في الطرح , جعلت من الفيلم واحدا ً من أفضل الأفلام في القرن الحادي و العشرين , قلبٌ كاملٌ للمعايير المتعارف عليها دون أن نشعر بذلك رغم الإشارات المنطقية التي تغيب عن نظرنا وسط كم كبير من الملامح الكلاسيكية الموظفة بإتقان لخدمة فكرة تتجاوز الحداثة بأشواط , تاركة المشاهد في نهاية الفيلم مذهولا ً لا يعي حتى إن كان حيا ً أم ميتا ً , في عالم تختلط فيه الأمور بشدة و يتعايش فيه الأحياء و الأموات بسلام , دون أن يشعروا ببعضهم إلا في حالات معينة قد تكون نادرة .
على صعيد أخر , يطرح الفيلم في مجمله مجموعة من الأفكار الفلسفية و يناقش العديد من الأفكار الدينية التي تتناول الحياة بعد الموت , ليصبح الدين في نهاية المطاف قابلا ً للنقاش في نقاط متعددة , فإن كنا قادرين على تقبل أفكار دينية و الإيمان بها كالخلق و الجحيم و الحياة الآخرة , فإننا قادرون على الإيمان بأمور أخرى توازيها في الميتافيزيقية كاختلاط العوالم مع بعضها , التقمص , الخلود و الفناء , ليبقى كل ذلك مجرد شكوك في النهاية بشكل يختلف من شخص لآخر وفق قناعاته الخاصة .
و في ذات السياق , يساوي الفيلم بين فكرتي الموت و الحياة , ليصبحا وجهين لعملة واحدة , بينما تبقى كافة الأمور الأخرى مجرد ثانويات تحيط بالوجود البشري , و تبقى كلمات مثل الله , الفرح , السعادة , الحرية , و غيرها مجرد وجهات نظر تحكمها الخبرة الشخصية , و تعالجها الأيام بطريقتها الخاصة دون أن يشعر الإنسان بها , و يبرز ذلك بشدة عبر شخصية Ann التي تمتلك أفكارها الخاصة الجريئة و تقاوم أفكار أمها الدينية في السر , لنجدها أول من ينشئ اتصالا ً مع الغرباء , و كأنها التي تقود البقية في الظلام الذي يكتنف الفيلم بشكل عام .
كما يقدم الفيلم كثيرا ً من الرموز التي تشير إلى أفكار فلسفية أعمق و أبعد , فالضباب الذي يحيط المكان بكثافة شديدة ليس سوى عبارة عن الحدود التي تحيط بالمرء في حياته , أو حتى بعد مماته كقبر مثلا ً أو كانتماء لمكان ما , و لذا نجد زوج Grace المتوفى في الحرب يجوب العوالم التي عرفها في حياته مارا ً بحثا ً عن منزله الحقيقي الذي ترتاح فيه روحه بعد الموت , إلى الأبد ربما أو إلى حين .
بالتوازي مع ذلك , يخفف الفيلم شيئا ً ما من التوتر الشديد الذي يغمر تفاصيله , بشيء من الكوميديا الآتية مع تفاصيل الحياة العادية , و تحديدا ً على مستوى الأفكار التي يطرحها الطفلان في نقاشاتهما الكثيرة , ليساعد ذلك على تعزيز صورة الحياة لدى الموتى بطريقة لا تختلف مع حياة الأحياء , و يعكس فكرة شديدة الأهمية عن عجز الموت أمام الإنسان الذي يبقى كما كان طوال حياته , فاتحا ً الباب أمام خلود كل شيء فينا , بدءا ً من أفكارنا اليومية و مشاعرنا المتناقضة و انتهاء بطبيعتنا التي خلقنا عليها .
يتميز الفيلم بتكامل هائل بين مكوناته المختلفة , سيناريو قوي جدا ً بناء على فكرة ذهبية , إخراج متقن يليق بمستوى النص , توظيف من أعلى طراز للإضاءة و الموسيقى , و غموض شديد يكتنف كل شيء و يحبس الأنفاس بانتظار النهاية التي تصدم المشاهد عقليا ً و عاطفيا ً , و أداء تمثيلي خارق من قبل جميع المشاركين في العمل .
و هنا تجب الإشارة إلى الأداء الاستثنائي الذي قدمته النجمة الكبيرة Nicole Kidman في أدائها لشخصية Grace على صعيد التفاصيل التي أضافتها للعمل , نبرة صوتها , ارتعاشة يديها , نظراتها , تنقلها بين الخوف و الشدة و القسوة و الضعف و الانهيار , لتتلاشى الحدود بينها و بين Grace بطريقة شديدة الخصوصية و مبهرة إلى حد بعيد , و هو أمر ليس غريبا ً على نجمة بحجم Kidman الحريصة دوما ً على انتقاء أصعب الأدوار و أكثرها فلسفية و إثارة للجدل .
جدير بالذكر , أن الفيلم من إخراج Alejandro Amenábar و حقق لدى طرحه في الصالات العالمية عام 2001 ضجة كبيرة , حاصدا ً النجاح على المستوى الجماهيري و النقدي على حد سواء , و نال عددا ً من الجوائز المهمة أبرزها جائزة Golden globe لأفضل ممثلة رئيسية في فيلم درامي .
بناء على كل ما سبق , يستحق فيلم The others المكانة التي يحتلها في تاريخ السينما العالمية , كواحد من أكثر الأفلام تجديداً و تغييرا ً في الطرح التقليدي , و مثالا ً بارزا ً لما يمكن أن تصل إليه السينما في تناولها للقضايا المختلفة ما دفع كثيرا ً من النقاد إلى اعتباره أفضل فيلم رعب عبر التاريخ , خاصة مع استنساخه ( و لو جزئيا ً ) في عدد كبير من أفلام الرعب اللاحقة .

Like This!

About وليد بركسية

الكتابة هي قدري ... Writing is my destiny
هذا المنشور نشر في فقاعات سينمائية وكلماته الدلالية , , , , , , , , . حفظ الرابط الثابت.

8 Responses to مزيج الكلاسيكية الظاهرية و الفلسفة العميقة في فيلم الرعب الشهير The others

  1. أنـــت مســكـــين ..

    فلسفة ومش عارف ايه , وافكار دينية …

    ياعمي روح كل لك حلة فول وطعمية على الصباح واختمها ببسي ..

    وبعدين من قال لك ان مسألة الحياة والموت في النهاية شكوك لكل شخص قناعاته !!

    إذا كنت مسلم فهذه ليست شكوك وواضحة في ديننا ..
    وليتك تقرأ القرآن والسنة بتمعن وراح تحصل على الحقيقة ..

    إعجاب

    • ههههههه ….
      أولاً شكراً على التعليق , بس بنهاية الأمر ليس جميع الناس في العالم مسلمين , و قد لا يكونوا حتى مؤمنين , و هذا حقهم الطبيعي في التفكير كيقما يشاؤون , من هنا تنشأ الشكوك , كل مؤمن ( بأي اتجاه ديني أ, فكري ) يشك في إيمان الآخر , و ربما تراوده شكوك تجاه ما يؤمن به , ففي النهاية حتى الإيمان لا يمكن أن يصل درحة 100 % عند أي شحص , و أنا في النهاية أحلل الفيلم فقط ….
      شكراً لك مرة أخرى

      إعجاب

  2. Abdullah كتب:

    تحليلك للفيلم جداً رائع..
    قصة الفيلم مرعبة, فكرته مجنونة, والنهاية صدمة!
    أداء نيكول كيدمان متميز ومُتقن.
    أعشق الأفلام التي تحتوي في نهايتها على حدث يصدم المشاهد ويجعله يعيد التفكير في الفيلم من الدقيقة الأولى حتى لحظة الصدمة.
    هناك الكثير من الأفلام الرائعة التي تتبع نفس الأسلوب.. ولولا خوفي من إفسادها على من يقرأ تعليقي لذكرت شيئاً منها.

    ((ملاحظ بسيطة: حبذا لو أنك ذكرت في بداية الموضوع أن تحليلك للفيلم يحتوي على حرق للنهاية والأحداث الرئيسية))

    إعجاب

    • معك حق صديقي في ملاحظتك , دائماً أتردد في وضع هذا التنويه من عدمه , لكنني أفترض دائماً من منطلق شخصي أن المشاهد يشاهد الفيلم ثم يبحث عن تحليل إضافي لتكوين رؤية عامة له … أرجو أن تشاركني بأفكارك حول الأفلام الأخرى …. إذا لم تشأ وضعها في تعليق يمكنك مراسلتي على بريدي الالأكتروني waleedooo13@gmail.com أو على صفحتنا على الفيسبوك … و أكون شاكراً لك بالتأكيد 🙂

      إعجاب

  3. FilmmakerQ8 كتب:

    فيلم غموض + رعب تحفه وشوفه الافضل من نوعه .. 10\10 ..
    نيكول كيدمان الزباله اخيرا اثبتت نفسها افضل دور لها ..

    إعجاب

    • فعلاً …. الفيلم مذهل و هو الأفضل …. رأيك بحترمو بنيكول كيدمان , بس بظن انو طريقة التعبير عنو شوي قاسية و غير لائقة …. أنا ما بحب هيك نوع من الألفاظ , و خاصة لما بتكون لوصف إنسان يعني كائن بشري …. ما بعرف هلأ شخصياً بلاقي عندها أدوار قوية جداً … متل بال the hours و الطاحونة الحمراء , حتى أدوارها الأخيرة قوية متل rabbit hole كانت ساحرة و ترشحت عليه للأوسكار …. دون ما انسى دورها المذهل ب dogville مع المخرج الكبير lars von trier …..
      شكراً إلك و تقبل ملاحظتي الصغيرة … 🙂

      إعجاب

  4. Asma كتب:

    فيلم رائع حقاً , ونيكول ممثلة ممتازة

    إعجاب

رأيك يهمني ...