The hours … تحفة سينمائية تكرم المبدعة فيرجينيا وولف على الشاشة الكبيرة

The hours

The hours

بحرفية عالية و إبداع غير مسبوق , يقدم لنا المخرج Stephen Daldry و الكاتب David Hare تحفتهما السينمائية The hours عن رواية تحمل نفس العنوان للروائي الأميركي الشهير Michael Cunningham .
ترصد الأحداث قصة يوم واحد من حياة ثلاث نساء ينتمين لأزمنة و أمكنة مختلفة و متباينة في رحلة بحثهن الدائمة عن السعادة , مع وجود رابط شديد التميز بينهم جميعا ً هو كتاب ” السيدة دالاواي ” للروائية البريطانية الكبيرة فيرجينيا وولف الذي يعتبر مركز الأحداث أو الملهم الأساسي لصنع الفيلم من الأساس .
فبينما تحيا فيرجينيا وولف ( Nicole Kidman ) لحظات الإلهام خلال كتابتها أحداث الرواية عام 1923 في قرية صغيرة بالريف الانجليزي , تقرأ لورا براون ( Julianne Moore ) الرواية متأثرة بأحداثها عام 1951 في لوس أنجلوس , لتعيش كلاريسا فوجن ( Meryl Streep ) أحداث الرواية عام 2001 في نيويورك كأنها النسخة العصرية من السيدة دالاواي نفسها .
يبدو اليوم نفسه عاديا ً في حياة النساء الثلاثة , الأمور الاعتيادية ذاتها : شراء الزهور , تناول الطعام , الاستيقاظ , إعداد الكعك … إلخ , لكن خلف الهدوء و الاستقرار و السعادة الزائفة يرقد عالم كامل من البؤس المختبئ وراء أقنعة الرضى , ليشكل ذلك اليوم مفترق طرق بالنسبة لصاحباته بناء على القرارات المصيرية التي يتخذنها عند نهايته , فتكتب وولف قصتها الأشهر على الإطلاق , و تقرر لورا براون هجر عائلتها و طفلها بدل الانتحار , و تنصدم كلاريسا بانتحار صديقها القديم ريتشارد الذي جمعته بها قصة حب لطيفة في الماضي البعيد , لتعرف أن السعادة كانت مجرد لحظة مرت عليها و تركتها شبحا ً حزينا ً .
يمكننا قراءة الفيلم على مستويات عدة , فمن جهة نستطيع اعتباره فيلم سيرة ذاتية كونه يطرح في جزء منه على الأقل أحداث حياة شخصية شهيرة جدا ً في عالم الأدب الحديث متمثلة ً بفيرجينيا وولف أحد أبرز القامات الأدبية في القرن العشرين بكل خصائصها النفسية و عوالمها الداخلية و الخارجية , و يعزز هذا الاتجاه في التفكير مشهدا المقدمة و الخاتمة اللذان يرصدان انتحار وولف عام 1941 بشكل منفصل عن أحداث الفيلم نفسها , كما يمكن النظر إليه كبروفايل سينمائي لكتاب السيدة دالاواي كونه يعرض ظروف كتابته و قراءته و أحداثه بشكل منفصل متصل ضمن إطار سينمائي معاصر شديد الحداثة .
في السياق ذاته , يمكن اعتبار الفيلم دراما اجتماعية معقدة , عبر غوصه في تفاصيل الحياة الداخلية لبطلاته و تشابك أحداثه عبر الأزمنة المختلفة و تأثير كل منها على الآخر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة , فمن جهة يتحكم الكتاب نفسه في مجرى الأمور بشكل عام , و من جهة أخرى تؤثر قرارات الشخصيات على مستقبلها و مستقبل غيرها دون أن تدري , فهجر لورا لطفلها المتعلق بها يترك عنده أثرا ً عميقا ً يؤدي لانتحاره في نهاية الفيلم عندما نكتشف أن ريتشارد صديق كلاريسا هو الطفل الصغير الذي شاهدناه في قصة لورا .
و تجدر الإشارة هنا إلى أن التشابك في الأحداث لم يكن شديد التعقيد أو الثقل , بل أتى في إطار تشويقي ممتع إن صح التعبير , وسط بينة متماسكة من المنطق و الإحكام , كل حركة تقود إلى أخرى بنظام محدد مسبقا ً , فنرى على سبيل المثال فيرجينيا وولف و هي تكتب سطرا ً في روايتها , و ننتقل بعده لنشاهد لورا براون و هي تقرأ السطر ذاته مستلقية في سريرها قبل النوم , لتظهر كلاريسا فوجن بعدها و هي تقوم بالفعل الذي يشير له الكتاب .
من جانب آخر , يستمد الفيلم فلسفته من طريقة فيرجينيا وولف في التفكير و نظرتها للحياة و أسلوبها الأدبي الفريد الذي أسهمت عبره في نقل الأدب من الكلاسيكية إلى مدارس الحداثة و ما بعد الحداثة , فنجد الفيلم يقوم عامة ً على أسس التداعي النفسي للأحداث و الشخصيات , إضافة لعالم الأفكار الداخلية المتضاربة التي يرصدها الفيلم بطرق متعددة في جوانبه المختلفة , و تركيزه الشديد على الإنسان في المقام الأول , و أتذكر هنا مشهدا ً رائعا ً يصور فيرجينيا وولف غارقة في أفكارها لتقرر فجأة أن على أحدهم الموت في الرواية , و بينما تتمتم بأفكارها بصوت خافت كأنها تتحدث إلى نفسها يضحك أطفال شقيقتها منها خلسة ً بسخرية وقحة , فتنهرهم والدتهم و هي تبدي إعجابها بشقيقتها المبدعة التي تحيا حياتين في وقت واحد , حياتها العادية و كتابها الذي تؤلفه .
على صعيد آخر , يجمع الفيلم ثلاثة من أكبر نجمات السينما العالمية لتجسيد الأدوار الرئيسية في العمل , ما أضفى عليه قوة شديدة على صعيد الأداء التمثيلي توازي الجوانب الأخرى في الفيلم من نص و إخراج و موسيقا مبهرة , فنرى Nicole Kidman تتألق كعادتها في شخصية فيرجينيا وولف , بأداء خارق على صعيد اللهجة و الحركات و طريقة المشي و الكلام و حتى أسلوبها الخاص في لف السجائر و تدخينها وهي تائهة في أفكارها الخاصة , كل هذا كان كفيلا ً بمنحها جائزة أوسكار أفضل ممثلة رئيسية عام 2003 رغم أن مساحة دورها أصغر من دوري Julianne Moore و Meryl Streep بكثير , حيث يمكن القول أن Kidman تحكمت في حياة شخصيات الفيلم عن بعد و رسمت قدرها و شكلت أساس الفيلم إلى حد كبير .
من جهتها نالت النجمة Julianne Moore ترشيحا ً لأوسكار أفضل ممثلة مساعدة لكنها خسرتها أمام Catherine Zeta Jones عن دورها في فيلم Chicago , بينما قدمت Meryl Streep أداء يليق بسمعتها كأفضل ممثلة عبر التاريخ , ليأتي مهرجان برلين السينمائي عام 2003 و ينصف النجمات الثلاث بمنحهن معا ً جائزة الدب الفضي لأفضل ممثلة دور أول .
في سياق متصل , نال الفيلم عددا ً كبيرا ً جدا ً من الترشيحات في شتى المهرجانات السينمائية الكبرى في أميركا و العالم , أبرزها تسع ترشيحات لنيل الأوسكار ( منها أفضل فيلم و أفضل مخرج و أفضل نص مقتبس … ) , و ترشيحه لنيل الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي كأفضل فيلم , و نيله جائزة Golden Globe كأفضل فيلم درامي .
The Hours فيلم شديد الروعة , نقل أفلام السيرة الذاتية إلى مستوى ً آخر بمزيج غير مسبوق من ناحية الطرح و التقديم , ليصبح واحدا ً من التحف السينمائية المعاصرة , و دليلا ً آخر على تفوق ” سينما الجوانب الإنسانية البحتة ” على نظيرتها المرتكزة على الإبهار البصري المبالغ فيه .

Like This!

About وليد بركسية

الكتابة هي قدري ... Writing is my destiny
هذا المنشور نشر في فقاعات سينمائية وكلماته الدلالية , , , , , , , , , . حفظ الرابط الثابت.

8 Responses to The hours … تحفة سينمائية تكرم المبدعة فيرجينيا وولف على الشاشة الكبيرة

  1. أحمد إبراهيم كتب:

    بؤس مختبئ وراء أقنعة الرضى.
    كلنا أو معظمنا يعيش ويحيا عبر التاريخ او عبر شخصية من شخصياته دون أن نعرف نحن بذلك.
    صديقي وليد كلماتك ومفرداتك منتقاة بعناية فائقة وحس فني ورقي فكري شديد.

    إعجاب

    • فعلاً … وهذا الفيلم مبني على هذه الناحية إلى حد ما , كل إنسان يتأثر بكتاب أو فيلم أو حتى مقولة أو أغنية و هذا الشيء ساعد في زيادة شعبية الفيلم بشكل كبير …
      و شكراً ع الكلام اللطيف … 😀

      إعجاب

  2. هذا الفيلم يحكي قصة حياة الكاتبة المثيرة للجدل فرجينا ولف بكل ما تعنية فرجينا من صخب وعنف وعبقرية في الكتابة , فرجينا التي وجه لها الكثير من الانتقاد لشجاعتها في الكتابة , فيلم عن ثلاثة اجيال والرابط الوحيد بين ثلاثة نسوة هو كتابات فرجينا وكيف اثرت على تلك النسوة وبشكل رائع وجميل ,مونتاج رائع وموفق في الربط بين ثلاثة ازمنه وثلاثة نساء وكتاب واحد…
    شكرا على النقد…

    إعجاب

  3. mode كتب:

    ايش تتوقع من فيلم ابطالو ميريل ستريب وجوليان مور ونيكول كيدمان لآآآزم يكون رائع مع اني ماشتفو بس اتوقع شي كبير خاصة ان النجمه الكبيرة ميريل تختار ادوارها بعنايا وتعرف ايش اللي يناسبها

    إعجاب

  4. غير معروف كتب:

    اتمنى ما يكون اهتمامي سطحي لكن شدني جدا موضوع القبلات او ممكن نسميه – الشذوذ الجنسي- بين بطلات القصة هل له معنى او تم حشره او او او .. وشكرا لكم

    إعجاب

    • اسمها مثلية جنسية مو شذوذ …
      بالنسبة للفيلم هي نوع من التساؤل عن السعادة على عدة مستويات بما فيها المستوى الجنسي … استكشاف خيارات جديدة لأنو الشخصيات، تحديداً جوليان مور كانت عند هدا الحد الفاصل للاعتراف انو هي شخصية عم تعيش حياة تعيسة مفروضة عليها من دون ما يكون عندها القرار الفردي لاختيار اي شي بما في ذلك هويتها الجنسية اللي يمكن ما فكرت فيها من قبل البوسة، واللي يمكن ما رجعت فكرت فيها مرة تانية من بعدها

      إعجاب

رأيك يهمني ...