الحب , التضحية و الإيمان في Breaking the waves

الحب , التضحية و الإيمان Breaking the waves

الحب , التضحية و الإيمان Breaking the waves

اتخذت مسيرة المخرج الدانمركي الكبير Lars Von Trier منحى ً آخر عام 1996 , بإطلاقه تحفته الفنية Breaking the waves التي شكلت علامة فارقة في تاريخ عطاءاته السينمائية منذ أواخر سبعينيات القرن المنصرم , ليبدأ بها سلسلة القلب الذهبي التي أكملها عام 1998 ب The idiots , و توجها بالسعفة الذهبية في مهرجان كان عام 2000 عن فيلمه الأشهر Dancer in the dark .
يعود ذلك بالدرجة الأولى إلى أساليب سينما الدوغما التي ابتكرها Von Trier قبل عام واحد فقط , ليشهد العالم في Breaking the waves للمرة الأولى أساليب لم يألفها من قبل مجتمعة بهذا القدر , كالكاميرا المحمولة باليد , و تكثيف اللقطات القريبة , و درجات الواقعية الشديدة في اتخاذ مواقع تصوير حقيقية أو شبه حقيقية , و الابتعاد الكامل عن المؤثرات البصرية و الخدع السينمائية التي غزت الشاشة الكبيرة بزخم متزايد منذ أواخر الستينيات , لدرجة إفساد الفن السابع و نزعه من روحه و سماته الإنسانية حسبما يرى صناع أفلام كبار ك Von Trier بكل تأكيد .
و في التفاصيل , يعود الفيلم إلى بداية سبعينيات القرن الماضي , ليروي قصة Bess McNeill الفتاة الاسكتلندية الاستثنائية , و حبها العميق لزوجها Jan العامل النرويجي في منصات النفط البحرية , و قلبها المحطم بعد تحرضه لحادث قاس يصيبه بشلل كامل مع يأس من الحياة بكافة تفاصيلها , إثر عجزه حتى عن ممارسة الحب مع زوجته الرائعة التي يعشقها و تقدسه بكل ما تحمله الكلمة من معنى .
ترتبط Bess مع الله بعلاقة شديدة الخصوصية , فمنذ نعومة أظفارها اعتادت تنظيف الكنيسة و رعاية بيت الله دون انتظار شكر من أحد , أجل , إن الإيمان الصافي يملأ كل ذرة من كيانها الصغير , لكنه بدأ يتحول شيئا ً فشيئا ً لنوع من الاضطراب النفسي , حيث نرى Bess طوال الفيلم في مونولوج مع ذاتها بصوتين مختلفين : رخيم و عادي , ما يمثل حواراتها المفترضة مع الذات الإلهية , أو فكرتها عن الآلهة في رأسها الصغير , و من هنا ينشأ شعورها بالذنب بعد إصابة Jan الخطيرة , كونها تضرعت الله أن يعيده إلى أحضانها باكرا ً دون أن تخشى عاقبة ابتهالاتها الطائشة و قلة صبرها و حبها الجارف لمخلوق فان .
و لكي يخرجها زوجها من سجون نفسها , يطلب منها البحث عن رجل آخر تمارس معه الحب على أن تروي له التفاصيل لاحقا ً , في شكل يظنه الجميع استغلالا ً من رجل مريض قذر لزوجته الطاهرة , لكن Bess لا تبالي بأحد , و تظن في دهاليز عقلها أن ممارستها الجنس مع الرجال الغرباء طريقة للتكفير عن ذنبها بحق زوجها , و تظن أن الله سيستجيب دعواتها بشفاء Jan إن ضحت بجسدها أكثر و أكثر , لتصبح في نهاية الفيلم مومسا ً أو تكاد , قبل أن تقتحم ردهة الكنيسة التي يحتكر فيها الرجال الحديث لأنفسهم ضمن قائمة طويلة من المحرمات السخيفة و تحديدا ً على النساء , و ترفع صوتها في وجه المجتمع البليد بأسئلة عن الحب و الإيمان , لكن الكنيسة تتبرأ من معرفتها و تعتبرها خاطئة و كافرة و تبشرها بالجحيم , و يتنكر لها أقرب أقربائها و تمسي وحيدة في الدنيا , بينما لم تنفع نذورها و تضحياتها الجسدية في إنقاذ Jan حتى الآن , فتقرر أخيرا ً التضحية بروحها عبر التوجه بغواية جسدها نحو البحارة القذرين الذين يقتلونها دون شفقة أو رحمة .
بعد موت Bess المأساوي , يفتح Yan عينيه و تعود الحياة لقلبه الضعيف , و ينجح لاحقا ً في تهريب جثة زوجته خشية أن ترميها عادات القرية القاسية إلى مثواها الأخير مع صلاة خاصة للإلقاء في الجحيم , و يرمي جثتها إلى البحر الواسع حيث لا حدود لرحمة الله , و في مشهد الختام الرائع , يستيقظ Jan و رفاقه في الصباح التالي على صوت أجراس عالية وسط المحيط , و نرى أجراس الكنيسة السماوية تقرع فوق القرية التي حرمت تعليق الأجراس على برج كنيستها الأرضية , و نعرف أن السماء فتحت أبوابها بكل رحابة ل Bess الطيبة ذات القلب الذهبي الطاهر .
من جهة أخرى , يمكن قراءة الفيلم على مستويات عدة , فمثلا ً تذكرنا Bess في قصة تضحياتها و قلبها الكبير و إيمانها غير المحدود بقصة السيد المسيح , و يتجلى ذلك بشدة في حوارات Bess مع الله حيث تخاطبه دائما ً ” يا أبتي ” , و يبرز تجسيد المسيح أكثر عند اللحظات الأخيرة في حياة Bess و هي تناجي ربها و تتساءل بحسرة لماذا تخلى عنها و تركها وحيدة مع أفكارها التي لا ترحم , في مشهد عظيم يذكر بمشهد المسيح على الصليب , لتصبح Bess المسيح الذي يسكن كلا ً منا بكل ما يمثله من أخلاق و محبة و تسامح , و كأن Von Trier يقول أن كل شخص هو إله بحد ذاته إن آمن بذلك فقط .
في سياق متصل , لا ينظر Von Trier إلى القضية بشكل مأساوي بحت كما هو الحال في Dancer in the dark على سبيل المثال , فنرى النهاية شديدة التفاؤل بعالم أفضل ينتظر الطيبين بعد الموت , لأن الأعمال الحسنة لا تذوي مع الريح , بل تبقى في قلب صاحبها الذهبي إلى الأبد , و نجح Von Trier في إبقاء نظرته التفاؤلية مخفية حتى آخر لحظة في الفيلم مع مشهد أجراس السماء , حيث تتفجر دموع المشاهد المتأثر بموت Bess المؤسف , ليغسل صوت الأجراس أحزان قلبه و يغمره بسعادة حقيقية , بعد مرارة الأحداث المتعاقبة .
و هنا تجدر الإشادة بالأداء الخارق للممثلة Emily Watson في شخصية Bess الصعبة بكافة تقلباتها النفسية و العقلية , فعلى الشاشة أمامنا لا نلحظ فروقا ً بين Watson و Bess , و كأنهما شخص واحد , و تحديدا ً على صعيد الأداء الصوتي الرهيب ل Bess في مونولوجاتها مع الله , دون أن ننسى كافة انفعالاتها و ردود أفعالها الظاهرة على كل ما يجري من حولها , باعتبارها غير قادرة على كبت مشاعرها داخل أسوار جسدها , كحال الأشخاص الآخرين في البلدة المتزمتة , لتنال عن دورها ترشيحا ً ثمينا ً لأوسكار أفضل ممثلة رئيسية عام 1996 , و تحظى بجائزة أفضل ممثلة في مهرجان الأفلام الأوروبية من نفس العام .
في ضوء ما سبق , خلق الفيلم حالة من الذهول في الأوساط السينمائية العالمية ,و أحدث ضجة هائلة عند إطلاقه في مهرجان كان السينمائي 1996 لكنه لم يحصل على السعفة الذهبية آنذاك مكتفيا ً بال Grand Prix ما شكل صدمة كبرى للمراقبين و رسم إشارات استفهام عديدة على أداء لجنة التحكيم آنذاك , إلا أن الحالة لم تتكرر في مهرجان الأفلام الأوروبية , حيث حصد الفيلم ثلاثة جوائز بينها أفضل فيلم و أفضل ممثلة رئيسية , إضافة لتكريمات أخرى حول العالم .
Breaking the waves , فيلم استثنائي و تحفة لا مثيل لها , و لا أبالغ إن وصفته بالأفضل في العقد الأخير من القرن العشرين كاملا ً , نظرا ً للمستوى الحرفي العالي الذي يغمر تفاصيله الدقيقة و و الإتقان الكبير في الجوانب السينمائية المختلفة , و هو دون شك وجبة دسمة لعشاق الفن السابع في كل مكان .

Like This!

About وليد بركسية

الكتابة هي قدري ... Writing is my destiny
هذا المنشور نشر في فقاعات سينمائية وكلماته الدلالية , , , , , , , , , . حفظ الرابط الثابت.

2 Responses to الحب , التضحية و الإيمان في Breaking the waves

  1. Saqr كتب:

    اخي حياك الله علي مجهودك في تحليل الفيلم واريد منك تحليل لفيلم the idiots وكمان اريد قائمة لافضل الافلام الاوروبية من وجهة نظرك وشكرا

    إعجاب

  2. Mr M Ali كتب:

    وانا اقراء هذه المراجعة وكانني اشعر بان المطر ينهمر علي وقتما اشاء لروعة و جمال التحليل المدهش

    إعجاب

رأيك يهمني ...