الأصالة والابتكار في “قليل من الموت” لمناف زيتون

غلاف قليل من الموت

غلاف قليل من الموت

لدي شهرة – قد تبدو غريبة – بين أصدقائي بأنني أكره الروايات العربية … إحساس لم تستطع كلاسيكيات نجيب محفوظ المتقنة أو قصص إحسان عبد القدوس العتيقة أن تنتشلني منه, ليصبح أي كتاب عربي جديد خطراً محتملاً أحاول تحاشيه خوفاً من خيبة أمل جديدة.
تغير هذا بشكل كامل في تجربتي الأخيرة مع الأدب العربي المعاصر, رواية قليل من الموت للكاتب السوري الشاب مناف زيتون, جذبتني بشكل غير متوقع إلى القراءة بنهم, ولم أستطع ترك الرواية تفلت من يدي حتى أنهيت الصفحات ال174 في ساعتين و28 دقيقة بالضبط.
كل ما في الرواية مثير للاهتمام, بدءاً من كونها التجربة الروائية الأولى لمدون طالما قرأت قصصه القصيرة ومقالاته الخارجة عن المألوف في مدونته بلوكة, إضافة للموضوع المميز الذي تطرحه الرواية وهو العودة من الموت, انتهاء بالغلاف الجذاب الذي أعتبره ركناً أساسياً من أي كتاب أراه في المكتبات وعلى الأرصفة.
تطرح الرواية حالة مرضية نادرة تدعي الموت الظاهري (وفيها تهبط المؤشرات الحيوية لدى المصاب إلى أدنى مستوياتها بشكل يبدو كأنه موت محقق) يصاب بها بطل الكتاب أنور النجار, الذي تبدأ الصفحات الأولى به وهو يفتح عينيه فجأة ليجد نفسه رمياً في تابوته بعدما ظن الجميع أنه فارق الحياة, لينجح لاحقاً في الخروج إلى نور الحياة بمساعدة حارس المقبرة وكاهن أحد الكنائس القريبة, وتبدأ رحلة استعادته لحياته القديمة أو هروبه منها إن صح التعبير.
الصفحات الأولى من الكتاب مذهلة بكل ما تحمله الكلمة من معنى بكل الأفكار الغريبة التي تدور في رأس أنور وهو تحت التراب, وينسحب هذا الوصف تدريجياً على بقية الرواية التي تحوي صفحات عبقرية فعلاً في الأسلوب والصياغة, حيث اعتمد زيتون بشكل أساسي على تقنيات تدفق الشعور ووصف العوالم الداخلية للشخصيات بطريقة عصرية تتجاوز السرد التقليدي الممل والشائع في الكتابات العربية عموماً, فتأتي أفكار الشخصيات غريبة مثلما هي في الحقيقة (أفكار ميتافيزيقة, دينية, ذكريات ..) وفكاهية تكسر حدة الرواية في أكثر الأماكن سوداوية فيها, كما أن الكلمات تأتي دائماً بوقع مميز, حتى أن ذراعي ارتعشتا بحق عندما قابلت بيسان والدها الميت – الحي لأول مرة, كما شعرت بالرهبة وحتى الخوف مع أنور في القبر, حالات لم أشعر بها مع كتاب ما منذ فترة طويلة جداً.
لم يترك زيتون أي ثغرة في حبكة القصة, كل الأسئلة التي دارت في رأسي وجدت لها جواباً, خاصة أن الشخصيات تميل إلى كونها طبيعية عادية دون تعقيدات لا مبرر لها. الشخصيات بالتحديد هي ما يثير الإعجاب, كل واحدة منها مبنية بدقة على الصعيدين النفسي والجسدي, والأروع من ذلك أنها لا تشبه أي شخصيات أخرى في الأدب العالمي ولا تطمح حتى لذلك (حالة أمقتها في الأدب العربي) وبالخصوص أنور النجار بطل الرواية الذي لا يشبه أحداً في الوجود سوى أنور النجار نفسه بكل خصائصه التي تبدو مثالية لرجل سيعود يوماً ما من الموت (فعلياً من القبر فقط) وبالتحديد فوبيا سرعة السيارات التي يعاني منها والتي شكلت نقطة محورية في بناء الشخصية ككل وبناء الرواية على حد سواء.
التفاصيل التي زود بها زيتون الرواية تأتي دون زيادة أو نقصان, لا كثير من الموسيقا الخارجية أو الاقتباسات الأدبية المبتذلة, إشارات مقتضبة مع توصيف مثالي لحالة كل شخصية (شغل السيارة وشغل الموسيقى التي يستمع إليها معظم الوقت حين يقود, سعاد ماسي. ص142), وهي نقطة إضافية تحسب للرواية التي لا تأخذنا بعيداً في متاهات الأفكار الجانبية على غرار الأدب السيكولوجي البحت, وأعتقد أن زيتون قادر على إبهارنا يوماً ما برواية من ذلك الطراز القائم على تدفق الشعور فقط دون حوادث حقيقية تجري بشكل يوازي فيرجينيا وولف في أدب الحداثة البريطاني.

مناف زيتون

مناف زيتون

قصة الموت والحياة التي يرويها زيتون واقعية إلى حد كبير في تفاصيلها التي تدور في دمشق عام 2009, ولا يبرز المكان كبطل على الإطلاق, هو مجرد ديكور لحكاية يمكن أن تحدث في أي مكان آخر, ومن الجيد عدم دخول الرواية في متاهة وصف الأمكنة حسياً وشعورياً على غرار كتاب مملين آخرين.
بالتوازي مع ذلك, لا تعمد الرواية إلى كسر محرمات الحياة العربية بحثاً عن مزيد من الشهرة, بل تقدم نفسها بوضوح كأدب رفيع المستوى, فلم تتحول لفيلم إباحي أو جريدة سياسية أو خطابات عاطفية بليدة, وهنا يمكنني القول للمرة الأولى منذ سنوات بأن المكتبة العربية تحتوي “رواية” مجردة من أي نوع كتابي آخر, وهو الجنس الأدبي المشوه في العالم العربي لاعتبارات كثيرة لا تجد طريقها إلى أسلوب زيتون عامة.
أزعجتني في الرواية فقط بعض الكلمات الزائدة من هنا أو هناك, أو بعض حروف الجر والربط التي وجدتها غير ضرورية أحياناً, لكنها لم تكن بالكثرة التي تدفعني لرمي الكتاب من النافذة, إذ يمكن تجاوزها بقليل من تكنيكات القراءة التقليدية كالتجاهل مثلاً.
قليل من الموت, كتاب مثير للاهتمام صادر عن دار نوفل مطلع العام الحالي, ويستحق عن جدارة الإشادة والشهرة, وحتى الترجمة للغات أخرى (لم لأ؟), وهي ليست مقدمة أو نبوءة بميلاد كاتب مهم, بل هي لحظة ظهور هذا الكاتب إلى العلن, ومن الرائع أن هذه اللحظة لم تتأخر في شرق أحمق لا يعترف عامة بالمواهب.

Like This!

About وليد بركسية

الكتابة هي قدري ... Writing is my destiny
هذا المنشور نشر في فقاعات أدبية وكلماته الدلالية , , , , , , , , , . حفظ الرابط الثابت.

2 Responses to الأصالة والابتكار في “قليل من الموت” لمناف زيتون

  1. . نقطة كتب:

    اغلب قرائاتي في الأدب غربية،،، لا أدري رغم تعصبي للعروبة لكنني لا أجد العمق الكافي في رواياتنا العربية ولقد توقفت منذ ما يزيد على ثلاث سنوات عن قراءة الرواية العربية (نصيحة محب: لا تخطئ أبدا وتفكر أن تقرأ رواية سعودية)

    إعجاب

    • انا أيضاً .. الكتاب العرب مكلون عموماً ويسنخدمون الرواية للتنظير السياسي والفكري بالدرجة الأولى بدل عكس قصة او عكس الواقع او عكس فكرة ما بطريقة أدبية, ومن هنا يأتي الجمود, بينما تأتي الضحالة من الشخصيات المكرورة غير المكتملة وغير الواقعية, ونصيحة في المقابل 🙂 اقرأ هذه الرواية إنها حقا ً مختلفة … لم أقرأ من قبل أي رواية سعودية في الحقيقة, لا أدري حتى أني لا أعرف أي كاتب/ة سعودي/ة على الإطلاق !

      إعجاب

رأيك يهمني ...