فتح عينيه, رمق العالم بنظرة شاملة, كل شيء ينهار من حوله, النجوم تتساقط من عروشها, النيران تلتهب بوهج حارق قرب وجهه, صرخات الألم تغمر الكون برمته, ضجيج العذاب الأبدي المخيف يملأ أذنيه, مسوخ بشرية تجري بهلع نحو مصيرها المحتوم, وآلهة غاضبة تضرب الخطاة بسلاسلها الطويلة دون شفقة, لكنه لا يبالي بكل ذلك الهراء, إنه فقط سعيد.
آخر موعد له مع الحياة كما يعرفها كان قبل آلاف السنين حسبما يذكر, مات حينها وأمسى جثة هامدة تعفنت مع الأيام, وها هو الآن يبعث حياً من جديد, ليس متيقناً إن كان يوم القيامة المنشود قد حان أم لا, لم يكن مؤمناً بذلك في حياته ولم يبالِ به قط, وبكل تأكيد لم يتغير ذلك خلال فترة موته الماضية.
تحسس قلبه بيده, لم يكن موجوداً كما كان, لكن سعادة غامرة كانت تجتاحه لسبب ما, ليست الحياة الجديدة وراء ذلك الشعور الطاغي بكل تأكيد, وجوده المادي الذي عهده في حياته الأرضية تحول إلى شكل جديد غير مألوف, لطالما تخيل نفسه هيكلاً عظمياً يزيل عن نفسه التراب وهو يقرأ الكتب المقدسة في طفولته البعيدة, لكن خيالاته تلك لم تكن سوى وهم تافه أمام الحقيقة التي تبهره الآن.
لم يكن هناك ملائكة أنقياء بهالة صفراء مشعة فوق رؤوسهم المبتسمة وأجنحتهم البراقة, ولم يكن هناك شياطين حمرٌ بذيول معقوفة وشوكات عملاقة تقطر منها السموم, البشر وآلهتهم فقط في المكان اللامتناهي, كان ذلك غريباً كغيمة ملونة في صيف تموز, لكنه مريح أكثر, لم يقترب منه أحد ولم يلحظ وجوده الساكن أحد ولم يعكر صفو سعادته أي أحد, لو كان له وجه بشري لكان يبتسم الآن برضى.
الجنون يحيط به أكثر وأكثر, كان الهادئ الوحيد في المكان, لطالما كان مختلفاً عن بقية الغوغاء, ترى من يكونون, أهم نفس الأشخاص الذين عاصروه في حياته السابقة, أم أنه حشر مع جماعة تشاركه ذات المصير, ربما سيبقى معهم على تلك الحال حتى أبد الآبدين, إنه سعيد بهم الآن بكل هذرهم المسرحي المسلي, لكنه سيصاب بالجنون منهم فيما بعد.
نهض من مكانه بتروٍ, لم يكن عليه ذرة من التراب, ولم تفح رائحة الجثث النتنة منه كما كان يشتهي للأسف, لم يكن يحس بكينونته الجسدية كالسابق ولم يكن يشعر بتدفق أفكاره في شوارعه العقلية كالسابق, لكن سعادته الداخلية كانت تقوده نحو مجهول ما لسبب لم يكن يدريه, أو ربما لسبب لم يكن يريد أن يبوح به لنفسه كي لا يصاب بخيبة أمل في حال لم يتحقق, ليس لطيفاً أن يبدأ رحلته في الأبدية بخيبة أمل, ليس لطيفاً على الإطلاق.
هزت صرخة مدوية عوالمه كافة ً, ربما ألقيت إحدى الأرواح البائسة في الجحيم, ابتسم وهو يتخيل نفسه التالي, ستكون صرخته كصرخات الشياطين الأوائل في أرض كنعان البائدة, لن يرضى بأقل من ذلك, لكن ذلك لن يحدث للأسف, فحتى اللحظة, لا يعتقد أنه سيلقى في الدرك الأسفل من السعير, إنه مجرد روح طيبة تهيم في العوالم أو ما بقي منها, هو يعي ذلك جدا ً.
توقف عن الحركة, جمدت أوصاله, لم يلتق بزبانية الجحيم, ولم يتجلى له الخالق بعد بغتة ً, ولم يقفز له الشيطان ذو القرون من العدم, صدمته المفاجأة في أبهى صورها, هكذا بكل بساطة وجدها من جديد, التقت عيناه بعينيها وسط الزحام البشري الهلٍع تماماً كأول مرة, لم تتغير البتة, زادتها السنون جمالاً فقط, هيئتها الجديدة تفوق شكلها البشري القديم بهاء ً ورقة, شعر بأنفاسه تتهدج وهي تقترب منه, لم يكن قادراً على الحركة, كان مبهوراً بها, وسعيداً إلى حد الإغماء, الإغماء فعل بشري عتيق, لكن التشابيه القديمة تناسب رومانسية الموقف في العالم الآخر الذي جمعهما من جديد, لقد وعدها أن يجدها قبل أن يموت وها هو يفعل, لم يخلف معها وعداً قط, ولن يفعل يوماً.
أمسك يدها, لم يكن الكلام خاصية يتمتعان بها في حالتهما الجديدة, ولم يكن هناك من داع لكلمات فارغة, كانا معاً وكان ذلك كافياً كي يشعرا بالنشوة, سارا معاً متشابكين متلاصقين كعادتهما في غابر الأيام, لم يكن هناك أشجار أرضية ضخمة تخفيهما عن العالم عند تبادل القبل خلسة ً, لكن هالة من النور حجبتهما عن اللغط البشري المحيط بهما, ونقلتهما الإرادة الإلهية العطوفة مع قبلتهما الأولى (أو ربما الآخيرة) إلى بعد آخر لهما وحدهما, هما فقط, إلى أبد الآبدين.
فقاعات ملونة
- فقاعات من نفخ الخيال (35)
- فقاعات من شعري (36)
- فقاعات متعددة الألوان (17)
- فقاعات أدبية (16)
- فقاعات سينمائية (46)
- فقاعات شخصية (6)
- فقاعات صحافية (1)
-
آخر الفقاعات
فقاعات صديقة
أكثر الفقاعات مشاهدة
- الساعات ال12 الأخيرة من حياة السيد المسيح في The passion of the Christ
- No country for old men ... رؤية شديدة السوداوية لواقع الإنسانية المعاصر
- أفضل 15 فيلما ً في العقد الأول من القرن الحادي و العشرين
- لماذا أكره الله
- الغفران ... رومانسية مشوهة و خيبة أمل بلا حدود
- One day ... علاقة مهتزة على أراجيح الزمن بين الحب و الصداقة
- Remember me ... شخصيات نابضة بالحياة و استدرار لا نهائي لعواطف الجمهور
- مرحباً أيها الحزن لفرانسوا ساغان ... رؤية مرهفة لحياة المراهقين من الداخل
- الحب , التضحية و الإيمان في Breaking the waves
- بين تشارلوت برونتي و جين إير ... حياة زاخرة بالآلام و روح متعطشة للحرية
فقاعة عشوائية
Google +
Twitter
Facebook
Follow us
فقاعات صابون على تويتر
بحث في الفقاعات
بين الفقاعات
- 2003
- 2004
- 2007
- 2009
- 2010
- 2011
- 2012
- Diane lane
- Julianne Moore
- Meryl Streep
- Nicole Kidman
- أغاثا كريستي
- أفلام أجنبية
- إرنست همنغواي
- الآلهة
- الألم
- الإنسان
- الانتظار
- الجريمة
- الجسد
- الحب
- الحرب
- الحرية
- الحلم
- الحياة
- الخلود
- الخوف
- الخيبة
- الدين
- الذكريات
- الرغبة
- الرومانسية
- الرياح
- الزمن
- السعادة
- السماء
- السياسة
- الشتاء
- الشر
- الشمس
- الشوارع
- الشيطان
- الظلام
- العائلة
- الفقر
- القدر
- القرن الحادي و العشرين
- القلب
- القمر
- الله
- الليل
- الماضي
- المطر
- الملل
- الموت
- الموسيقا
- الوحدة
- الولايات المتحدة
- باريس
- بريطانيا
- دمشق
- روايات
- روايات عالمية
- سوريا
- سيرينا ويليامز
- شعر
- فرنسا
- فيرجينيا وولف
- قصائد
- قصص قصيرة
- لندن
- مقالات
- مهرجان الأفلام الأوروبية
- مهرجان كان السينمائي
- نوال الزغبي
nice one…… keep it up
إعجابإعجاب
thank you … glad that you liked it ^_^
إعجابإعجاب
رائـعة جدااااااا
بحب اقرأ منك كل جديد وبستمتع جداً بكتاباتك
إعجابإعجاب
شكراً كتييير ^_^ سعيد جداً انو نالت إعجابك 🙂
إعجابإعجاب
حبيبي انت مبدع ❤
إعجابإعجاب